خلال رحلة تعليمي المتواضعة لطلاب الهندسة منذ حوالي ٨ سنوات، و التي تمحورت خلالها المادة التي أعلمها حول الrobotics والmechatronics والبرمجة و التصميم ثلاثي الأبعاد و غيرها كان يأتيني بعض الطلاب و يقول:” انا اريد العمل في هندسة الميكانيك و انظمة التبريد فما حاجتي لهذه المواد.” وقد يختلف التعبير بين طالب و آخر ولكن الفحوى واحدة. و كانت اجابتي تختلف و تتغير مع مرور الوقت و لكن بعد ثمان سنوات اعتقد انني وصلت لجواب شافٍ في هذه المسألة.
وقد تكون فرص العمل التي مررت بها عاملاً اساسياً في صياغة هذه الإجابة.
أول ما عملت، كانت مدرب Robotics لطلاب من مختلف المجالات و الفئات العمرية فكان بين المتدربين طلاب الثانوي و طلاب الجامعات على مختلف اختصاصاتهم. و كانت هذه البداية حين وجدت اني بحاجة لفهم بعض الأمور خارج إطار تخصصي (هندسة الميكانيك) لأستطيع التجاوب و إيصال الفكرة بطريقة أوضح للمتدربين فدرست أكثر من لغة برمجة و تعلمت على الكثير من البرامج لأوسع أفق معرفتي قدر المستطاع لتلتقي مع الإختصاصات الأخرى. و هذا كان في المجال الأكاديمي.
ثم بدأت العمل في شركة أخرى تعمل على إبتكار و تصنيع prototypes لمشاريع معينة يطلبها الزبون. و كان عملي في البداية التصميم ثلاثي الأبعاد فقط و كنت أرى باقي المهندسين في الشركة يعملون على تصنيع لوحات التحكم و برمجتها و برمجة المواقع على الانترنت لتتواصل مع هذه اللوحات و تجميع الماكينات و التحكم بها من الكمبيوتر. و كان كل يوم يزداد شغفي لذلك. و مع مرور أول شهر فقط تمكنت من دراست و فهم ما يجري و التحقت بالفريق و مرت ٩ أشهر حتى تركت ذلك العمل للتفرغ لدراستي في آخر سنة لي في الجامعة و كنت قد شاركت في جميع المراحل من تصميم المشاريع و تنفيذها باستخدام CNC او laser cutting و تصميم لوحات التحكم بها و برمجاتها حتى انتهاء المشروع.
ثم عملت على بعض المشاريع الخاصة و لم انقطع عن التعليم في الجامعة او في تدريب الrobotics طوال هذه المدة حتى يومنا هذا.
ثم عملت لمدة أربع سنوات في شركة هندسة تعمل على تصميم و تنفيذ اجهزة التحكم في المبانيBMS أو Building Management System و هنا أيضا ادركت مدى ضعف أحادية الإختصاص، فهذه الأجهزة تتحكم في معدات الميكانيك و الإنارة و الحماية security و يدخل فيها البرمجة و الشبكات networking و غيرها من الإختصاصات فإن أردت التحكم بنظام التدفئة والتبريد مثلا لا بد لك من فهم ما نسميه Sequence of Operation و هو الجدول الذي يشرح كيف يعمل هذا النظام و قس على ذلك في كافة الأنظمة الأخرى. هنا أدركت أن عزل النفس في اختصاص معين يحد من امكانية إيجاد فرص العمل بل يكاد يلغيها تماما.
والآن بعد ان تركت العمل في هذه الشركة و تفرغت للتدريس الجامعي لأكثر من جامعة و في عدة مجالات منها الروبوتكس و الذكاء الإصطناعي و الmechatronics إضافة إلى العمل على تقديم خدمات تعليمية جديدة للمدارس و الجامعات في مجالات عدة، جاءت أزمة الكورونا لتُجلّي ما كنت أحاول فهمه و السبب الرئيسي لموقفي.
لا يخفى على عاقل، ان ما بعد الكورونا ليس كما قبلها وأن مبدأ العرض و الطلب في سوق العمل قد تغير جذريا. فبات من الصعب مثلا على مهندس الميكانيك او المدني إيجاد عمل براتب مريح فضلا عن إيجاد عمل في المقام الأول، و لكن مع هذا الإنحسار لبعض الإختصاصات تبدأ اختصاصات أخرى في الظهور و هي تنيجة امتزاج عدة إختصاصات في اختصاص واحد و منها الBMS مثلا.
ومثال حي على اهمية التوسع في المعرفة و الإختصاصات أنني الآن كمهندس ميكانيك أعمل حالياً على تطوير موقع تعليمي لإحدى الشركات و إن نجح قد أكون مديرا لفريق من المبرمجين للعمل على هذا المنتج. بينما لو انني تعصبت لاختصاصي لكنت الآن من جملة المهندسين العالقين في بيوتهم لأن معظم المشاريع الإعمارية متوقفة.
و الآن أستطيع الإجابة بثقة على تساؤل الطالب: ” لسان حالك كأنك تقول أنا فقط أريد قيادة السيارة و أحتاج إلى المقود و المقعد و الدواليب الأربع، فما حاجتي للمحرك و خزان الوقود وباقي القطع الإضافية ؟!”
نهاية، ما أردت أن انشر هذا لسمعة أو رياء ولكن للمنفعة العامة وليعرف طلابي الأعزاء أن العلاقة بين أفق معرفتك و فرص عملك علاقة تناسبية بامتياز…وأقتبس من “مهندس” فاضل قوله “إن سقف الممكن مذهل…فلا تستكين!”